فصل: تفسير الآيات (38- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (37):

{فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا} أي أن اللّه سبحانه وتعالى جعل كفالة مريم ورعايتها وتنشئتها إلى يد كريمة طاهرة، هي يد النبيّ الكريم، زكريا عليه السّلام.
وقوله تعالى: {كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً} أي رزقا متجددا، ما يراه اليوم غير ما رآه أمس، وغير ما سيراه غدا.
وهذا ما جعله يرى نفسه أمام ظاهرة غريبة، تطالع عينه فيها نفحات اللّه وأفضاله فيجد بين يديها كل طيب كريم، من الطعام، لم يقدمه لها أحد.. ويسألها زكريا. فتجيب: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} وليس من جواب غير هذا الجواب، يحبس تساؤل المتسائلين، ويذهب بما ملأ صدورهم عجبا ودهشا، من هذه الآيات التي تتنزل بين يدى مريم، رزقا من السماء بلا انقطاع.. إنه من عند اللّه! وما كان من عند اللّه فلا مثار منه لعجب أو دهش!!

.تفسير الآيات (38- 39):

{هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)}.
التفسير:
{هنالك} أي هذا المقام الكريم، الذي شهد فيه زكريا ما شهد من آيات ربّه المتنزلة على مريم بالنفحات والرحمات.. وفى هذا الموقف الذي اشتعل فيه كيان زكريا كلّه بأشواق التطلعات إلى السماء، وأحاسيس التداني والقرب.. هنالك استشعر زكريا قربه من ربّه، ودنوه من رحمته، فضرع بين يديه داعيا يطلب الولد، الذي حرمه حتى بلغ من الكبر عتيا، وكانت امرأته- مع ذلك- عاقرا.
كان زكريا فيما شهد من أفضال اللّه على مريم أمام معجزات خارقات لمألوف الحياة، وما يخضع له الناس من سننها، فاهتبلها فرصة يأخذ فيها بنصيبه من هواطل غيوث رحمة اللّه، فطلب هذا المطلب الجاري على غير المألوف! وقد استجاب اللّه لزكريا ما طلب، فوهب له يحيى مصدقا بكلمة من اللّه، وسيّدا، وحصورا، ونبيا، من الصالحين.
ومن هذا نعلم أنه يقدر ما يكون في كيان الإنسان من إيمان باللّه، وثقة به، وطمع في رحمته، بقدر ما يكون حظه من القبول والاستجابة لما يدعو به ربه.
ومن هنا كان للحال الذي يشتمل على الإنسان الأثر الأول في قبوله واستجابة دعائه.
وإن الذي يدعو وهو منقطع الصلة باللّه، أو هو خامد الشعور بقدرة اللّه، أو متشكك في سماع اللّه لما يدعو به، وإجابته له- إن مثل هذا قلّ أن يستجاب له.
أما من يدعو وهو على يقين من أن اللّه قريب منه، مطلع على سرّه ونجواه، وأن بيده الخير كله، وأنه على كل شيء قدير- إن من يدعو وهو على تلك الحال، فهو في معرض القبول والإجابة لا محالة.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة» قوله تعالى: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} كلمة اللّه هنا هي المسيح عيسى ابن مريم، وبهذه الكلمة بشّر اللّه مريم، فقال تعالى: {يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وذلك في الآيات التالية بعد هذه الآية.. وقد كان يحيى- عليه السّلام- هو الذي عمّد عيسى، وهو الذي بشّر به، وصدّق برسالته، كما تحدث بذلك الأناجيل.
قوله تعالى: {وَسَيِّداً} أي سيّدا على نفسه، متحكما في شهواته غالبا لها.
وقوله تعالى {وَحَصُوراً} أي مجانبا الشهوات، حتى لكأنه عاجز عن إتيانها لضعف أو مرض، وما به ضعف أو مرض، ولكن قوة روحه قهرت نداء شهواته، ودعوة جسده.
وفى قوله تعالى: {وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} ما يسأل عنه، وهو: هل في الأنبياء صالح وغير صالح، أم أن الأنبياء جميعا من الصالحين؟
لا شك أن الأنبياء جميعا من الصالحين، لأنهم صفوة خلق اللّه، وقد اختارهم اللّه، واصطفاهم للسفارة بينه وبين عباده، وليس يختار لهذه المهمة الكريمة إلا أكرم الخلق، وأفضل الناس في كل أمة يبعث فيها رسول.
فكلمة نبىّ تحمل معها كل معانى الحياة للصلاح والتقوى! فما الحكمة في أن وصف النبيّ بالصلاح هنا؟
ونقول- واللّه أعلم- إن وصف النبوة الذي وصف به يحيى فيما وصف به من صفات، هو وصف شرفىّ، لشرف الوظيفة التي هي النبوة، وهى مع هذا لا نستغنى عن الأوصاف الشخصية التي تكون للنبىّ، قبل النبوة، ومع النبوة.
والصّلاح على إطلاقه هو أكمل صفة وأتمها يمكن أن يظفر بها إنسان حتى الأنبياء.. فهى الكمال الإنسانىّ في أعلى مراتبه وأشرف منازله، ولهذا كان من دعوات الأنبياء عليهم السلام أن يكونوا من عباد اللّه الصالحين كما قال اللّه تعالى على لسان سليمان: {وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ} [19: النمل] وقال تعالى على لسان إبراهيم، وهو يطلب الولد الصالح: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [100: الصافات] وقال سبحانه في وصف عيسى عليه السّلام: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [46: آل عمران] ومعنى هذا أن الصلاح صفة ملازمة له، قبل النبوة ومع النبوّة، فلو لم يكن نبيّا من الأنبياء لكان صالحا من عباد اللّه الصالحين.

.تفسير الآيات (40- 41):

{قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)}.
التفسير:
أمام الخوارق المذهلة التي تخرج عن مألوف الحياة، وتجيء على غير حساب الناس وتقديرهم- يقف العقل مشدوها مضطربا، إذ يفقد توازنه، ويفلت من بين يديه كل حساب وتقدير، ويضل عنه ما كان له من علم ومعرفة.
لقد رأى موسى عليه السّلام- العصا يلقى بها من بين يديه فتتحوّل إلى حيّة تسعى، فتأخذه الرهبة، ويستولى عليه الفزع، وينطلق مسرعا.. ولا يمسكه أنه بين يدى اللّه، يناجيه ويسمعه كلماته! وهذا زكريا- عليه السّلام- يسمع الحق- جلّ وعلا- يستجيب دعاءه، ويبشره بالولد الذي طلب، فتعتريه حال كتلك الحال التي اعترت موسى حين انقلبت العصا إلى حية تسعى! فلا يملك أن يسأل ربّه: أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر؟ إنها صدمة المفاجاة بهذا الأمر الخارق العجيب، ولو جاء هذا الأمر متلبسا بمقدمات تومئ إليه، وتكون إرهاصا به- لما كان من هذا النبي الكريم هذا الموقف المثير لعجبه ودهشته، لأنه على يقين من قدرة اللّه التي لا حدود لها، والتي لا يسأل أمام عجائبها ومبدعاتها.. بكيف؟ ولكنها- كما قلنا- صدمة المفاجأة، ودهشة المستقبل لأمر غير متوقع! وقد أجاب اللّه زكريا بما لا يخفى عليه، ولا يعتقد في اللّه غيره {قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ}.
ويجوز أن يوقف على قوله تعالى {كذلك} فيكون اسم الإشارة والمحذوف الذي يكمله هو مقول القول، والتقدير: كذلك قضى ربك، أو نحو هذا، ويكون قوله تعالى {اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ} جملة تفسيرية لمقول القول.. وهذا هو الوجه الأظهر للآية الكريمة.
ويجوز أن يكون الوقف عند لفظ الجلالة: {قالَ كَذلِكَ اللَّهُ} ويكون المعنى كذلك هو اللّه سبحانه في قدرته وحكمته، ثم يجيء بعدها قوله تعالى: {يَفْعَلُ ما يَشاءُ} جملة مستأنفة، شارحة موضحة.
وقوله تعالى: {قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} ليس عن شكّ في تصديق زكريا بما أخبره به ربّه، وإنما هو استعجال لهذا الخير المنتظر، وائتناس بالبشريات التي تحدّث به، وتنتصب شاهدة عليه.
فالآية التي تعرض لزكريا في هذا الوقت الذي لا زال فيه الولد في عالم الغيب، لم تظهر له في عالم الوجود إشارة أو علامة تنبئ عنه- الآية التي يراها زكريا في هذا الوقت، هي في الواقع شيء مجسّد يجده زكريا، ويجد ريح الولد فيه! وفى هذا ما فيه من تمام الفرحة وكمال المسرة! وكما استجاب اللّه لزكريا فيما طلب من ولد، استجاب له كذلك فيما طلب من آية على هذا الولد.
{قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} هذه هي الآية التي تملأ قلب زكريا طمأنينة وأنسا بالولد المنتظر.. ألّا يكلّم النّاس ثلاثة أيام، بمعنى أن يجد لسانه عاجزا عن الكلام، محبوسا عن النطق، فلا يكون بينه وبين الناس تفاهم إلا بالإشارة بيده، أو الإماءة برأسه، أو ببعض الحركات بعضو أو بأكثر من عضو من جسده.
وفى هذا صوم إجبارى عن الكلام، وهو ضرب من ضروب العبادة العالية، وقد أمر اللّه تعالى به مريم في قوله سبحانه: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}.
ويصحّ أن يكون قوله تعالى لزكريا: {قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} يصح أن يكون هذا أمرا لزكريا بالصّوم عن الكلام ثلاثة أيام بلياليها، كما قال تعالى لزكريا في آية أخرى: {قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا} [10: مريم] وعلى هذا المعنى يكون صوم زكريا عن الكلام صوما إراديّا، استجابة لأمر اللّه.
والسؤال هنا: لم كانت الآية على هذا الوجه، وهو أن يصمت زكريا عن الكلام- إجباريا أو اختياريّا- ثلاثة أيام؟
يجيب أكثر المفسرين على هذا بأن ذلك كان عقابا لزكريا في موقفه هذا القلق، الذي وقفه من الخبر الذي جاءه عن ربّه.. فقال أولا: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} ثم قال ثانيا: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً}! والذي نراه- واللّه أعلم- أن هذا الصمت الذي فرضه اللّه تعالى على زكريا مدة ثلاثة أيام، هو الدواء الذي تسكن به النفس المضطربة المهتاجة بهذا الخبر العجيب.. وهو طب بليغ، لا يغنى غيره غناءه في مثل تلك الحال.
ذلك أنه ليس أحسن من الصمت علاجا لجمع النفس المشتتة، وتسكين القلب المهتاج!.
ولو كان ذلك الصمت عقوبة لكان تكديرا لتلك النعمة التي كانت في ذاتها آية من آيات اللّه.. وتعالت آيات اللّه أن تشاب بسوء، وجلّت نعمه أن تختلط بكدر! فالصوم عن الكلام هنا هو من تمام تلك النعمة، التي تستأهل عظيم الحمد، وجزيل الثناء، ولهذا جاء توجيه اللّه تعالى لزكريا بقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ} بعد أن جعل الصوم عن الكلام آية له، شكرا على تلك العطية العظيمة، وعلى الآية المصاحبة لها.
هذا، ويمكن أن يعطى النظر في الآية الكريمة معنى آخر، وهو أن قوله تعالى لزكريا: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} هو إيحاء لزكريا بأنه- وهو مما خلق اللّه- يستطيع إذا تعطلت الأداة الطبيعية للتفاهم بينه وبين الناس، وهى الكلام، فإنه لا يعدم وسيلة أخرى يتفاهم بها، ويجد منها ما يعوضه عن بعض ما فقد، فيتخذ الرمز والإشارة عوضا عن الكلمة باللسان.. فإذا كان ذلك شأن الإنسان، حيث يستطيع أن يخرج عن الأسباب المألوفة، ويحقق بأسباب غيرها ما كان يحققه بها، فإن قدرة اللّه- التي هي فوق نطاق الأسباب أبدا- أحق وأولى بألا تحتجزها الأسباب التي نراها مصاحبة للمسببات! وأنه إذا كان من مألوف الحياة الواقعة تحت حواسنا ألا تلد العقيم، وألا يولد للشيخ الفاني، فإن قدرة اللّه- إذا قضت حكمته- تجعل العقيم ولودا، وتخلق من الشيخ الفاني بنين وبنات.. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

.تفسير الآيات (42- 43):

{وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}.
التفسير:
العطف هنا في قوله تعالى: {وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ} هو عطف على قوله تعالى: {إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ}، فهو عطف حدث على حدث.
ولقد أصبحت مريم خادمة بيت اللّه أهلا لأن تتصل بالسماء، وأن تتلقى فيوض رحماتها وبركاتها، فنادتها الملائكة مبشرة لها بما فضل اللّه به عليها: {يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ} بأن جعلك في عباده المصطفين، القائمين على عبادته وطاعته.. {وَطَهَّرَكِ} من الشّرك به، أو التدنّس بالكبائر من الآثام.. {وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ} أي جعل منك الولد الذي لم يولد لإنسان من الناس على، صورة مثل صورته، وهو المسيح الذي سيولد من غير أب.. نفخة من روح اللّه، وكلمة من كلماته! إنها صورة فريدة لا مثيل لها فيما تلد الأمهات.. فلقد اصطفى اللّه- سبحانه- هذه الأنثى المباركة، لتكون معرضا من معارض قدرته، ومجلى من مجالى صنعته فيما يصنع، وشاهدا من شهود تلك القدرة التي إن أقامت هذا الوجود على سنن، وربطت بين المسببات والأسباب، فإنها فوق السنن، وفوق الأسباب،.. تخرج الحىّ من الميت، وتخرج الميت من الحىّ.. وتخلق أصل الإنسانية كلها ابتداء من غير ذكر أو أنثى- هو آدم- وتخلق أنثى- هي حواء- من ذكر، دون اتصال بأنثى، وتخلق ذكرا- هو المسيح- من أنثى دون اتصال بذكر! فهذا هو الاصطفاء الذي اصطفى به اللّه سبحانه وتعالى مريم على نساء العالمين، إذ كانت منها هذه الآية العجيبة، وتلك المعجزة الفريدة بين المعجزات! ومن حقّ هذا الاصطفاء الذي أضفاه اللّه على مريم أن تتلقاه بالشكران والحمد للّه ربّ العالمين، فكان أن وجهها اللّه سبحانه، إلى هذا بقوله: {يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} والقنوت هو الخضوع للّه، والولاء المطلق لعزته وجلاله، والسّكن إلى نعمه وأفضاله.
والسجود والركوع عملان من عمل الجوارح لعبادة اللّه، والولاء له.
فالقنوت عبادة صامتة مكانها القلب.. والسجود والركوع عبادة ظاهرة، مظهرها الجوارح.. وبالقنوت، والسجود، والركوع، يصبح باطن الإنسان وظاهره جميعا مشتغلا بعبادة اللّه، متجها إليه، قائما على الولاء له.. وهذا هو أكمل العبادة وأتمها.

.تفسير الآية رقم (44):

{ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}.
التفسير:
الإشارة هنا، إلى ما ذكره اللّه سبحانه وتعالى من أخبار امرأة عمران، وزكريا، ومريم ابنة عمران.. وهى مما غاب أمره عن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- ولم يكن عنده من أخبارها شيئا.. فهى غيب بالنسبة الرسول، وإن كان عند أهل الكتاب شيء منها! وقوله تعالى: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} تأكيد لما بين الرسول، وبين هذه الأحداث من بعد، ومن غياب أمرها عنه، لأنه- أولا- لم يكن من أهل الكتاب، ولا من القارئين الدارسين لما في أيدى أهل الكتاب من علم، ولأنه- ثانيا- لم يكن معاصرا لهذه الأحداث، ومشاهدا لها.
ومن جهة أخرى، فإن من هذه الأنباء ما لم يكن عند أهل الكتاب- وخاصة معاصرى النبوة- شيء منها، مثل ما أخبر به القرآن من اختصام المختصمين في كفالة مريم، وأيّهم أحق بها، ثم التجاؤهم في هذا الخلاف إلى أن يقترعوا عليها، وذلك بإلقاء أقلامهم في الماء، فأيهم ثبت قلمه كفلها، وقد أصابت القرعة زكريا، فكفلها زكريا، كما أخبر القران الكريم بهذا.. فهذا كلّه لم يكن عند أهل الكتاب المعاصرين للنبيّ شيء منه، ولم يكن فيما بين أيديهم من كتب اللّه حديث عنه.
وفى هذه الأخبار التي يتلقاها محمد من السماء، على غير سابق علم بها، وفى مجيئها على تمامها وصحتها، غير محرفة، ولا مبتورة، كما هو الحال فيما بقي بين أيدى أهل الكتاب منها- في هذه الأخبار دلالة قاطعة على أن ما يتلقاه محمد من أخبار، هو من مصدر عال، لا يرجع فيه إلى بشر، ولا يستند فيه إلى علم بشر، وإلا كان لزاما عليه ألا يخرج عن محتوى ما يرد إليه من علم العالمين!